ترجع اسباب نكوص البعض من الناس الى سوء التوافق في عملهم او في التعامل مع زوجاتهم او ازواجهن او مع ابناءهم او في العلاقات الاجتماعية الى فقدانهم اساليب التعامل مع الضغوط الحياتية التي تعصف احياناً في تكوينهم النفسي حيث يبتعدون عن التوافق النفسي لا لانهم غير كفوئين او مرضى نفسيين وانما اشتدت عليهم شدائد الحياة وافقدتهم توازنهم وانعكس ذلك في التعامل على علاقاتهم مع زوجاتهم ومع اطفالهم ومع الناس الاخرين وامتد ليشمل العمل حتى اختلت الامور كلها وابتعد التناغم المتوازن عن حياتهم وحلت الفوضى التي ادت الى تقليل الكفاءة والاداء الحياتي واضطربت حينها كل الموازين.ان ما يربط هذا التنظيم المتجانس للفرد من جانب وعلاقته بنفسه وعائلته ومجتمعه وعمله من جانب آخر هو ما يسمى بالتوافق Adaptation وهو يعني بكل الاحوال التخلص من التوتر دون ما اعتبار للقيمة التكيفية.
يعني التوافق علمياً بانه محاولة الفرد لمواجهة متطلبات الذات ومتطلبات البيئة.ففي ثنايا محاولة التوافق علمياً يجد معظم الناس الاسوياء ضرورة ملحة تفرض عليهم ان يتظاهروا بوجه مبتسم حتى وان كانت تعتريهم اوهام الخوف او الاختلاف مع الزوج او الشدائد الاقتصادية ويبحث العقلاء منا عن الحلول العقلانية لحل اشكالية هذه الاختلالات وسوء التوافق ومهما كان الامر فعلينا ان نذكر ان صورة الشدة والمصاعب لاتنتهي بسهولة سحرية كما يتمنى البعض،بل يحتاج لها المزيد من الجهد والكفاح والمواجهة والجهاد مع النفس من اجل استعادة التوافق النفسي الذي ينعكس على الزوجة او الزوج،الاطفال،العمل،العلاقة بالمجتمع ويقول علماء النفس ان احسن وافضل الناس يواجهون الكثير من المنغصات وخيبات الامل والاحباط والانواع المختلفة من الضغوط اليومية ولكن عدداً قليلا منهم الذين يواجهون هذه المصاعب بشدة ويستعيدوا توازنهم الشخصي والاسري والاجتماعي.
يعد التوافق عملية متدرجة تبدأ من سلسلة من الخطوات يلجأ اليها الفرد عندما يشعر بانه في حاجة اليها وتنتهي عندما تشبع الحاجة او يستتب الامن النفسي في داخله وعبر هذه العمليات يقوم اي منا عندما يتعرض الى مصاعب وشدائد ليستعيد توافقه حيث يبدأ جاهداً فيها لتخطي العقبات من اجل ازالة الاحباط او المواقف الضاغطة واستعادة التوازن.ويقول علماء التحليل النفسي ان استعادة التوازن لاعادة التوافق يمر عبر ردود الافعال المستمرة التي لا تؤدي احياناً الى التوافق المباشر مثل القلق او الهم او الحالة العصبية الشديدة"النرفزة"،ويجد البعض اسلوب الاستجابة المباشرة لاستعادة التوافق من خلال الاسقاط Projection (آلية دفاعية لا شعورية)او من خلال الاعلاء والتسامي Sublimation (آلية دفاعية لاشعورية).
وغني عن البيان ان اولى تطبيقات عملية التوافق وما يواجهها الفرد تبدأ من مرحلة الطفولة حيث يجد الطفل اول حالة للاختيار فيها فحين يصل الى هذا العالم يجد جواً خلقه هذا الشخصان اللذان يعتبران اباء له- وليس من شك ان الوالدين اللذان يفشلان في خلق السعادة،لابد ان يختلف جو منزلهم عن ذلك الذي يخلقه ابوان يجد كل منهما في الاخر السند والقوة الثابت فعلاقة الوالدين احدهما بالاخر هي اساس الجو العاطفي الذي ينشأ فيه الطفل ويجد فيه توافقاته الاولى مع الحياة.فالتوافق الاسري ينعكس مباشرة على الطفل الوليد وتقول عالمة التحليل النفسي كارن هورني ان الطفل وهو يحاول ان يجد طريقه الى التوافق مع المجتمع يرى امامه ثلاثة طرق:فهو يستطيع ان يتجه نحو الناس او ضدهم او ان يبتعد عنهم فالذين يتجهون نحو الناس يتقبلون بؤسهم ويسعون لاقامة علاقة معتمدة على الاخرين وخاضعة لهم وبذلك يشعرون بالامن والانتماء،والطفل الذي يختار الاتجاه ضد الناس يرى الكراهية في كل ما حوله ويعد نفسه للعنف لكي يهزم الاخرين،اما الطفل المنسحب فأنه يسلك سبيلا دفاعياً هو الانعزال والابتعاد ويسعى الى الاشباع في عالمه الخاص لذا فأن(سميث)يرى ان التوافق السوي انما هو اعتدال في الاشباع،اشباع عام للشخص عامة لا اشباع لدافع واحد شديد على حساب دوافع اخرى،والشخص المتوافق توافقاً ضعيفاً هو الشخص غير الواقعي وغير المشبع بل والشخص المحبط.بينما الشخص الذي يتمتع بالتوافق السوي هو الذي يستطيع ان يواجه العقبات والصراعات بطريقة ناجحة ولا تعوق قدرته على العمل،حتى بات لدى علماء النفس ان توافق الفرد يعني توفر قدر من الرضا عن النفس الذي ينعكس فيه على اسرته واطفاله وعمله وعلاقاته الاجتماعية ويؤدي في المدى الطويل الى التقليل من الاحباط والتوتر والقلق.
عد البعض من علماء النفس ان التوافق هو الحضور في العالم،حضور مع الاسرة ومع المجتمع وامام الناس والتفاعل معهم وفي العمل المنتج،هذا الحضور يفرض نفسه علينا من خلال بعض العواطف التي نستطيع ان نطلق عليها التكيف الناجح حتى اعتبر التوافق نمطاً من المسالمة مع النفس اولا ومع الاسرة والمجتمع ثانياً على اساس ان المسالمة من طبيعتها تجنب الصراع وتلافيه،اذ ان المسالمة هي نوع من التوافق الذي يتطلب الكفاح والجهاد ضد الاحباط والقلق والشدائد التي تنزل ضيفاً علينا من حيث لا ندري،فنستقبلهم احيانا بقدر من المضض لانه نذير بخطر لا نعرف مصدره،او حتى لو عرفنا مصادرها فأنه يردنا الى حالة من القنوط وسوء التوافق مع النفس الذي ينعكس على الاسرة وعلى العمل وفي التعامل الاجتماعي،فيفتح لنا الابواب نحو الامراض بمصراعيها ويزيدنا شعوراً بالوحدة وان زاد سوء التوافق يزلزل كياننا النفسي والاجتماعي فنستشعر بالغربة في انفسنا حتى يجعلنا ان نفقد اهتماماتنا بالحياة كلها،وتغدو الوجوه المألوفة حتى الحبيبة منها اشياء غريبة،وتضيق علينا فسحة الحياة وتشمل قلوبنا حتى يمتلكها الخوف والرعب فتضطرب كل حياتنا فيتمزق النسيج العاطفي والنفسي والاسري والاجتماعي لدينا،فسوء التوافق يجلب لنا القلق،والقلق الشديد يولد الاغتراب،وما ينشأ عنها من مضاعفات ربما مرضية في المستقبل لو اشتدت الحالة ولم تجد التفريغ المناسب ،ومن انواع التوافق الذي سنتناوله لاحقاً،التوافق العقلي،والتوافق الجنسي،والتوافق الديني،والتوافق الاقتصادي،والتوافق الدراسي واخيرا التوافق المهني..
منقول