أذكر كثيراً عن بلدي , ولكنني متأكد من أنها جنة للخلد , فمنزل جدي في بغداد ينعش حياتي كلما جفت , ينعم بعبق ذكريات والدي التي لا ينقطع عن التحدث عنها , صوت المذياع صوت جدتي عند الفطور كل ذلك جنة بالنسبة له , وحلم بالنسبة لي , لطفل حرم من حق طبيعي في البقاء ببلده .
لقد ولدت بالعراق , ومدينتي هي بغداد , لكن صدقني لا أذكرها بكل تفاصيلها , أذكر ثلاثة أشياء فقط , الأول هو قبل الحرب وهو العيد , ما زلت أذكره بشكل رائع ,أذكر الجميع , عندما كنا نجتمع في بيت جدي هنالك أعمامي وأولادهم وأولاد عمتي الذين أورثوني في كل عيد شق في رأسي , لكنهم وضعوا لي ذكرى في رأسي , ذكرى جميلة , ذكرى أن العيد جميل في العراق ,العيد جميل هنالك عند مدينة العاب .
والذكرى الثانية هي صوت صفارات الإنذار , عندما تصرخ أمي باحثة عن الجميع , وتلمّنا إلى حضنها كالقطة التي تريد حماية أطفالها من هوارين الأحياء , أذكر صوتها وأحياناً بكاءها , وكثيراً صراخها.
والذكرى الثالثة هي ذكرى خروجنا من بغداد , يومها كنت قد رجعت من المدرسة لأنصت لحديث والدي وبكاء أمي , لم أدرك الموقف بشكل صحيح , ولكنني استيقظت باليوم الثاني لأرى حقائبنا والأشياء الضرورية قد جمعت للرحيل , فرحنا كثيراً أنا وأخوتي لسفرنا وخلصنا من صوت الانذارات , فرحنا لأننا أعتقدنا أننا ذاهبون للاصطياف .
كان صباحاً لا ينسى , أعلنت الشمس فيه احتلالها للسماء كما أعلنت أمريكا تحريرها للعراق , تجولنا في شوارع بغداد , وكانت أمي تبكي , وأبي ذلك الجبل الصارم ينظر بنظرات لم أدرك معناها حينئذ , ولكنني أدركه الآن بشكل جيد ,فالغربة جعلتني أدرك ما معنى الوطن , ومامعنى أن تهجر وطنك لذنب لم ترتكبه , لمجرد النفط الذي شرد طفولتي وذل عائلتي , وشرذم حياتي ...
كم أكره الحدود التي عبرناها, أكرهها ككرهي لعدوي , أكرهها خصوصاً عندما بدأ أبي برجاء الشرطة أن يتركوا له تلك العلبة التي احتفظ بها منذ طفولته , كيف يدعوها له وقد أعجبتهم , وحقارتهم وعجرفتهم طغت على قلوبهم , أرادوا أن يأخذوها ولكن بالمال عند الحدود تحلحل كل المشاكل , هذه القاعده قد تعلمتها من تجوالنا وترحالنا من بلد لبلد .
وبقي أبي محتفظ بتلك العلبة و كثر إمساكه لها وتأمله لصدفها الذي كان قد جمعه من الخليج في رحلة لا ينساها , , وكما لو أنها ابن له أو حفنة تراب , لكنها قد مثلت العراق في نظره .
حياتي الآن بالغربة أسوأ من أي شيء في الحياة , أشعر باضطهاد الجميع من حولي , أصبحت إرهابي في نظر زملائي بالمدرسة , وكم من المرات بات الأولاد يستهزؤون من لهجتي التي لا يفهمون منها شيء , لكنني أحبها كثيراً , أحب كلمة شلونك أكثر من كلمة كيفك , أشعر بها بأنها من عراقي الذي يحاولون أن ينسوني إياه , أشعر بشلونك هي من صميم قلبي ليست رياء أو تصنيع أمريكي .
أنا طفل في سن العاشرة وأحقد على كل الدول , أحقد عليهم وعلى تخاذلهم , كم من المرات شعرت أنهم هم سبب بلانا وتخاذلهم وتهاونهم هو سبب تشردي , وذلي في كل بقاع الأرض , وهم ينعمون بحياتهم وأنا أتجول بشوارع ليست شوارعي وببيوت ليست بيوتي ..
حتى العيد , كم أكرهه الآن , وكم كنت أحبه . فعيدنا في هذه البلاد يتمثل بالمكوس في البيت طوال الوقت , فلا أقرباء لنا هنا ولا أحد نذهب له لنعايده. كم اشتاق إلى شق رأسي من قبل أولاد , كم أشتاق لمدينة الالعب التي كانت تنتهي بنا بضرب من أمي بعد تمزيق ثوب العيد أو توسيخه , ولكن هنا لا نملك سوى متابعة أخبار العراق وذل العراق وتشرد العراقيين , وبكاء الثكالى , والصمت المخزي , فعيدنا هو ثياب جديدة في هذه البلاد , وبكاء أمي وأخوتي على أيام بغداد , وعشقنا لبغداد , حتى أبي , حتى الجبل انصدع , وبات ضعيفاً ,كسير النفس , أبي وجبروته , أصبح الآن في هذه الغربة يسعى لجلب اللقمة التي تأوينا لليوم التالي , ويسعى لأن نبقى بالبيت خوفاً علينا من هذه البلاد التي أكرهها , خوفاً علينا من أولاد الحي ومن الغرباء .
في كل ليلة , أغرق بأحلامي بالعودة للعراق , وإلى بيت جدي , أحلم بشوارع بغداد التي تجسدت بعقلي كحدائق بابل , جميعها جنان , أحلم باستقرار , وبأمان , أحلم بأن أستيقظ على صوت الأذان واجراس الكنائس , على صوت أبناء الحي ولهجتهم العراقية البحته , أحلم بأن أذهب للمدرسة والأطفال يقولون شلونج , أحلم بأن أستقر ببلدي وأقبل ترابك يا عراق ,وأروي ظمأي من دجلة الذي كلما غرفت منه زاد عطشي , أحلم بفرج الله ورحمته ,
فهل هذا كثير على طفل ذنبه أنه عراقي